الأحد، 4 يوليو 2010

بلاد الحبشة في نص عربي مجهول

بلاد الحبشة في نص عربي مجهول

يوميات الرحالة السوري صادق باشا العظم الذي أوفده السلطان عبد الحميد إلى النجاشي منليك الثاني

عمان: «الشرق الأوسط»
الأبيض في نظر أهالي الحبشة طبيب وجراح ومقتدر على كل شيء، ومع ذلك كله فإنهم يكرهون لونه وإذا غضبوا عليه يسبونه قائلين: «تاج اولاج»، أي المملوك الأبيض. وبالجملة أن لون الأبيض مكروه جدا خصوصا عند أهالي أواسط أفريقيا لعدم ألفة أبصارهم هذا اللون. فيظن البعض منهم أن الإنسان الأبيض إنما ابيض لانه ولد في غير أوانه أي قبل أن ينضج في بطن أمه، والبعض منهم يذهب إلى أن البياض ليس هو إلا نتيجة مرض أصابه فغيّر لونه الأسود الطبيعي. هذه فقرة من كتاب «رحلة الحبشة من الاستانة إلى اديس أبابا» الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ودار السويدي للنشر والتوزيع في أبو ظبي كأول كتاب في سلسلة تهدف إلى تقديم كلاسيكيات أدب الرحلة إلى جانب الكشف عن نصوص مجهولة لكتاب ورحالة عرب ومسلمين جابوا العالم ودونوا يومياتهم وانطباعاتهم خلال القرنين الماضيين.
يقول محمد احمد خليفة السويدي في استهلاله: «هذا الكتاب باكورة سلسلة قد تبلغ المائة كتاب من شأنها أن تؤسس وللمرة الأولى لمكتبة عربية مستقلة مؤلفة من نصوص ثرية تكشف عن همة العربي في ارتياد الآفاق. وإذا كان أدب الرحلة الغربي قد تمكن من تنميط الشرق والشرقيين عبر رسم صورة دنيا لهم بواسطة مخيّلة جائعة إلى السحري والعجائبي، فإن أدب الرحلة العربي إلى الغرب والعالم ركز على تتبع ملامح النهضة العلمية والصناعية ومحاولة الكشف عن طبيعة الوعي بالآخر الذي يتشكل عن طريق الرحلات». ورحلة الحبشة، موضوع هذا الكاتب، قام بها صادق باشا مؤيد العظم في ربيع سنة 1896 موفدا من قبل السلطان عبد الحميد ومعه رسالة إلى النجاشي منليك الثاني إمبراطور الحبشة، وقد كان العظم قائدا عسكريا في الجيش العثماني (فريق أول)، وهو سوري ينتمي إلى اعرق البيوت الدمشقية. ومع أن الكاتب دون وقائع رحلته يوما بيوم، وبالتالي فهي تشبه في ترتيبها المذكرات اليومية، إلا أن القارئ لا يملك إلا أن يعجب بما يتميز به الكاتب من رهافة في وصف المشاهد وذكاء في قراءة الظواهر وبساطة في اللغة وطلاوة في العبارة وطرافة في التعليق. إن تعليقات المؤلف تكشف، كما يقول المشرف على هذه السلسلة نوري الجراح، عن نفس ذات نزعة إنسانية لا يتناهى إليها تعصب لجنس أو دين أو ثقافة (بالرغم من انه عسكري ورحلته كانت دبلوماسية بالدرجة الأولى)، فالمرأة تتخذ لها في سطوره حضورا شاعريا، والازهار الغريبة تبلغ عينه باندهاش وهو يتصرف كعاشق مولع بالنبات والأرض والناس ولم يهمل خلال وقوفه على الأمكنة طيلة ثلاثة اشهر تفصيلا يستلفت انتباهه مهما كان، من هنا فإن وصفه يمكن أن يشكل وثيقة بالغة الأهمية لما كانت عليه الحبشة خلال نهاية القرن التاسع عشر.

وإذا كان من المتعذر نقل الكثير من المشاهدات التي دونها المؤلف فإن استعراضا لبعضها قد يعطي صورة عن أسلوب هذا الرحالة العربي كما في وصفه لجمال النساء الحبشيات ودقة أنوفهن وبساطة مسلكهن وتقشفهن وسمرتهن الأخاذة. لكنه يبدي دهشته وأسفه لأحوال النساء في تلك البلاد وللحيف الواقع عليهن من جانب الرجل وثقافة المجتمع المفرط في ذكوريته، بالرغم من أنه يثني على همة المرأة الحبشية ونشاطها وكفاحها اليومي الصامت قياسا بنساء القسطنطينية الخاملات.

أعمدة الملح بدلا من الرواتب عن المشاهدات الغريبة في ذلك الزمن يتحدث العظم، مثلا، عن طريقة تناول الطعام وتقديمه فيقول: «يضعون أمامهم طعامهم وجلّه من الفلفل الأحمر ويجلسون القرفصاء حول هذه المائدة ويضعون عليهم العباءة أو الرداء الكبير المسمى (شحما) حتى لا يراهم أحد ويأكلون بكل سكون وهدوء من غير أن يسمع لهم صوت مستترين تحت هذا الغطاء ولو لم أرهم بعيني يستعدون للطعام لما كنت علمت انهم يتناولون طعامهم وكيف يتسنى لي ان اعلم ذلك وليس أمامي سوى غطاء كبير تحته أشباح تتحرك كأنهم حواة يقومون ببعض الألعاب الغريبة ولما سألت عن سبب ذلك قيل لي إن الأحباش يأكلون طعامهم تحت ستار حتى لا تراهم عين فتصيبهم مصيبة من جراء ذلك، وكنت أرى الخادم عندما يقدم لي شيئا مثل القهوة أو الماء أو الطعام يخفيها تحت ذيله حتى لا يراها أحد كأنه مال مسروق وعندما أتناولها ينشر رداءه أمامي منعا لرؤية الغير».

وثمة حديث طريف عن طريقة دفع الرواتب للموظفين في تلك الأيام يقول فيه: «ان المرؤوسين في الحبشة يتحاشون إظهار ثروتهم أمام رؤسائهم ومنهم من يدفنون أموالهم في الأرض وقد يموتون من غير أن يعرف أحد المحل الذي أخفوا فيه ثروتهم. والإمبراطور يعطي لأصاغر المستخدمين من حاشيته أعمدة من الملح.. بدلا من الرواتب فهي تقوم مقام الدراهم في كل بلاد الحبشة وكل خمسة من هذه الأعمدة تساوي ريالا واحدا وهذا الملح الذي يستخرج من بلاد (وللو) التابعة لمقاطعة تيغري تحت احتكار الحكومة وتصرفها».

ويقدم كثيرا من هذا الملح بين الأشياء الأخرى التي يقدمها حاكم تيغري كل سنة إلى النجاشي بدلا عن الاتاوة.

فكرة «شبيه صدام» مأخوذة من الحبشة يتحدث المؤلف عن وظيفة في بلاط إمبراطور الحبشة اسمها «دافع المصائب والبلاء» وهي النسخة الأولية لفكرة شبيه صدام حسين فيقول: «في بلاط النجاشي وظيفة على غاية من الأهمية يطلق عليها اسم «ليقا ما قواس» ويجب على الشخص المرشح لهذه الوظيفة أن يكون مشابها للإمبراطور من حيث البنية والشكل تمام الشبه. ولصاحب هذا المنصب أن يرتدي مثل ما يرتدي الامبراطور ويعلق أوسمته وبالجملة فإن الشرط الأعظم أن لا يكون فرق بينه وبين الامبراطور. وفي بعض الأحيان يقسم المنصب بين اثنين يشبهان النجاشي. و«ليقا ما قوس» هذا يقف دائما وقت الحروب والأسفار قرب الامبراطور وتحت شمسيته ولا يقدر أحد حتى ولا الجنود أن يميزوا الامبراطور الحقيقي من الامبراطور الوهمي فيتمكن الامبراطور بذلك وقت الحروب أن يترك شبيهه تحت خيمة وشمسيته في مركزه الرسمي ليذهب هو ويتجول أين يشاء دون أن يصيبه أذى أو اقل خطر ويكون في معزل عن قنابل العدو ورصاصة. و«ليقا ماقوس» هذا يكون دائما معرضا للمهالك بدلا من الامبراطور ولذلك سمي بدافع البلاء».

أجناس الحبشة يشير المؤلف الرحالة إلى أن عدد سكان الحبشة في ذلك الوقت بلغ 12 مليون نسمة منهم ثمانية ملايين مسلم واربعة ملايين مسيحي و25 ألف يهودي في جهة سامن. وينقسم الأحباش كما يقول على قسمين: الأول الأحباش الاصليون والثاني الفاللا (ولعله يقصد اليهود الفلاشا)، ويؤكد أن الأحباش لا يعدون من جنس الزنوج بل انهم معدودون من الأجناس السامية، وهم يعتقدون انهم من نسل سيدنا سليمان من زوجته الملكة بلقيس اليمنية، مشيرا إلى أن بعض الأحباش كانوا يقومون بالترجمة للوفد خلال محادثاته مع الصوماليين الذين لا يعرفون التكلم باللغة العربية. وأورد المؤلف في نهاية الكتاب ملحقا عن هجرة المسلمين إلى الحبشة وعن مشاهير الأحباش الذين كان منهم بلال الحبشي مؤذن الرسول عليه الصلاة والسلام والعشرات الذين كان منهم الصحابة والصحابيات وأمهات الصحابة والتابعين.

هناك تعليق واحد: