الأحد، 4 يوليو 2010

الحبشة والأحباش في التاريخ العربي الإسلامي بقلم /د.جلال الدين محمد صالح

الحبشة والأحباش في التاريخ العربي الإسلامي بقلم /د.جلال الدين محمد صالح
الحلقة الرابعة


أما فيما يتعلق بميناء الدخول إلى الديار الحبشية فيقول الدكتور عبد العزيز: نستطيع أن نستنتج أن المهاجرين كانوا قد رسوا في الساحل الأفريقي للبحر الأحمر

في الشروم الواقعة على الساحل الإرتري واستقروا على ضفاف أحد الأودية على مخارج الهضبة الإرترية التي تقود إلى أكسوم./أهل بلال/148

كذلك يرى ضرار صالح ضرار أنهم ركبوا السفينة من "ميناء شعيبة السعودي قرب جدة، واتجهت جنوبا نحو مصوع، وفي الطريق توقفت في جزيرة عيري السودانية التي يطلق عليها أيضا اسم جزيرة الريح، وذلك بغرض التزود بالماء والراحة، والتفريغ والتحميل، ثم من هناك أبحرت إلى باضع". هجرة القبائل العربية إلى وادي النيل مصر والسودان/240 ـ 241

في حين ينقل أخوه الأستاذ سليمان صالح ضرار في مخطوطته البجة ص74 من كتاب المؤرخ الأوروبي بضج : (تاريخ إثيوبيا ص 270 ) قوله: في سنة 615 أي قبل الهجرة إلى المدينة بسبع سنوات، ركب البحر من ميناء شعيبة الحجازي بالقرب من جدة أحد عشر رجلا مسلما وأربع نساء مسلمات، ودفع كل منهم نصف دينار، وتوجهوا في سفينتين إلى باضع، أي جزيرة عقيتاي، وكانوا في طريقهم إلى الحبشة التي كان يحكمها ملك عادل.

ثم يعلق على هذا النص بقوله: "هذه الجزيرة هي عاصمة مملكة بني عامر، التي تسمى جارين، واستقبل أفراد قبيلة بني عامر هؤلاء المهاجرين، ورحبوا بهم، وأعطوهم الأمان للنزول في أرض مملكتهم، وبذا تكون هذه القبيلة البجاوية هي أول شعب يعطي الأمان للمسلمين، ولأول مهاجريهم خارج الجزيرة العربية..." ص75.

وما قاله الأخوان سليمان، وضرار هو في النهاية كلام واحد، يصب في مصب واحد، وإن كان ضرار زعم أنهم تزودوا بالماء والراحة في جزيرة (عير) السودانية، من غير أن يقول لنا السند التاريخي الذي استقى منه هذه المعلومة، توثيقا لها.

والمسافة من باضع إلى أكسوم أقرب منها من سواكن إلى أكسوم، وإن كانت سواكن أقرب إلى الحجاز من باضع، ثم أن باضع كانت الميناء التجاري لأهل الحبشة، يأتون إليها ببضائعهم لمقايضتها بما يحتاجون إليه، كما يقول صاحب معجم البلدان ياقوت الحموي، وهذه المكانة التجارية لباضع لدى الحبشة، إضافة إلى قربها لمقر النجاشي، لا بد أن تجعل منها على الأرجح في تقديري ميناء الوصول المفضل إلى النجاشي أكثر من غيرها.

ويعزز نعوم شقير من وجاهة هذه الرؤية وقوتها، في كتابه (تاريخ السودان) ص 40 فيقول عن مصوع، وهو يتحدث عن ميناء أدوليس: ويعرف "الآن بميناء زولا، على عشرين ميلا إلى الجنوب من مصوع، وهي ميناء أكسوم".

وإلى الوجهة نفسها يذهب المؤرخ الأوروبي جويدي حيث يقول: إن( ساحل أدوليس ( زولا) كان يجتذب إليه المهاجرين من جنوبي بلاد العرب، ويسهل التجارة من مكة، وكان هذا الساحل هو الوحيد بين السواحل الأفريقية المطلة على البحر الأحمر الذي يؤمن النزول فيه، ويجاور ـ علاوة على ذلك ـ الهضبة الحبشية.

ووفقا لرأي Budge (بج) فإن عدوليس هي الميناء البحري لمملكة تجراي Tigray في شمال الحبشة، وهي ما عرف أخيرا بـ زولا Zullah الحديثة. انظر: الهجرة إلى الحبشة دراسة مقارنة للمرويات/12 ـ 13

وبعد أن أورد الدكتور محمد بن فارس الجميل في مؤلفه المذكور جملة من الآراء حول مكان نزول الصحابة، ناقش المسألة وخرج بالنتيجة التالية حيث قال:إن الروايات المتقدمة تكاد تميل إلى الرأي القائل: إن عدول، أو عدوليس، أو ما يعرف حديثا بـ(زلا ) الواقعة على الشاطئ الغربي للبحر الأحمر في إرتريا الحديثة هي المكان الأول الذي وطئته أقدام المهاجرين الأولين، ولكن هذا الرأي لا يزال بحاجة إلى دليل حاسم يؤيده، وفي غياب المعلومات الدقيقة تبقى الآراء ظنية، وغير قاطعة الدلالة، وإذا ثبت أن عدوليس كانت هي المرفأ الذي هبط فيه المهاجرون في الجانب الآخر من البحر فمن الجائز القول بأن رحلتهم البحرية تلك كانت مغامرة محفوفة بالمخاطر، إذا أخذنا في الحسبان طول المسافة الفاصلة بين الشعيبة نقطة الانطلاق وعدولى، أو عدوليس، مكان النزول، حيث يبلغ قرابة ( 675 كيلا) إذا رسمنا خطا مستقيما بين الموضعين.

أما سواكن المرفأ البحري المعروف في السودان فهو أقرب من عدوليس إلى جدة أو الشعيبة في الجهة الخرى من البحر الأحمر، أي في الحجاز، وقد حاول عبد الله الطيب جاهدا إثبات أن سواكن هي المرفأ الذي نزل فيه المهاجرون إلى الحبشة، وهو مكان قريب من الحجاز نسبيا، إذ تبلغ المسافة بخط مستقيم بين الشعيبة وسواكن ( 325 كيلا) تقريبا.

ومع وجاهة هذه الفرضية فإنها لا تزال بحاجة إلى دليل ملموس لإثبات صحتها، خصوصا أن مصادر السيرة لم تذكر مكانا بعينه، أو مدينة بعينها في بلاد الحبشة، نزلها المهاجرون. انظر: الهجرة إلى الحبشة دراسة مقارنة للروايات 13 ـ 14

وهذا في نظري استنتاج معقول ومنطقي إذ لا يقدم لنا كل طرف من الوثائق التاريخية ما يسند رأيه، ويثبت ادعاءه، أو يحسم المسألة لصالح وجهته، لكن أيا كان الميناء الذي نزل فيه الصحابة، سواكن، أم باضع، فإن الهجرة كانت إلى الحبشة، حيث مملكة أكسوم، ولم تكن إلى السودان، دون استبعاد أن يكون السودان الحالي، أوجزءا منه، بعضا من أرض الحبشة التاريخية.

وشهد الصحابة بعد وصولهم أرض الحبشة حدوث تمرد على هذا النجاشي، فخافوا من أن يفقدوا حق اللجوء السياسي، بمجيئ حاكم ظالم، لا يعرفه لهم حقهم، فانتابهم القلق، وتابعوا المحاولة الإنقلابية ـ إن صح التعبير ـ التي جرت عليه، بإرسال واحد منهم إلى ساحة معركتها، وهو الزبير بن العوام الذي عبر النيل سباحة إلى الجهة التي شهدت ملتقى الفريقين،

بقربة منفوخة جعلها في صدره، ثم عاد وهو يحمل نبأ إخفاق المحاولة الانقلابية، وتغلب النجاشي على خصمه، مما أعاد الإطمئنان إلى نفوسهم. ابن هشام السيرة النبوية/ج1/ص351

وقد نمى إلى علمي أن هذه المعركة الإنقلابية من شواهد القائلين بأن السودان هو دار هجرة الصحابة، وإن كنت لا أستطيع الآن بيان وجه دلالتها على ما ذهبوا إليه، غير أنه يبدو لي ـ وهذا مجرد افتراض ـ أن حدوثها على جانب النيل، هو الذي حملهم على هذا القول.

لكن ما الذي يمنع من أن تكون هذه المعركة وقعت في الحبشة ذاتها، حيث بحيرة (تانا) بجوار بلدة (بحر دار)، ومعلوم أن النيل الأزرق المعروف في إثيوبيا (بأباي الكبير) يبدأ من هذه البحيرة، وإذا افترضنا جدلا أن المعركة حدثت في السودان الحالي، وأن الزبير بن العوام عبر النيل إلى الجانب الذي وقعت فيه المعركة، من أرض السودان، فمن أين كان هذا العبور، إن لم يكن من مقر النجاشي، حيث مركز الدولة وعاصمتها؟ ثم ما المانع من أن يكون حدث هذا التمرد في هذا الجانب، من أرض المملكة، وأن النجاشي سير الجيش من مقر حكمه أكسوم [إقليم التجراي ] للقضاء عليه، وأن الصحابة لاهتمامهم بالأمر، صحبوا هذا الجيش، وأوفدوا معه من يتابع لهم أمر المعركة، وكان هذا الصاحب، والمتابع الزبير بن العوام رضي الله عنه؟.

أين تقع (دباروا)؟ وما علاقتها بالنجاشي مستقبل الصحابة؟ وهل ثمة توالد وتزاوج بين الأحباش والعرب؟ وما هي الأنماط الحضارية التي جلبها المهاجرون الصحابة من بلاد الحبشة؟ وهل كانت الحبشة معروفة لدى قريش قبل الإسلام وكيف؟ وهل للأحباش وجود حضاري بين ظهراني العرب وفي بلدانهم؟ وكيف كافأ النبي صلى الله عليه وسلم الأحباش وتعامل معهم؟ ذلك ما سنتطرق إليه في الحلقة القادمة فتابع معنا مشكورا.

وكتبه/ الدكتور جلال الدين محمد صالح

لندن - 11/5/2005

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق