الأحد، 4 يوليو 2010

الحبشة والأحباش في التاريخ العربي الإسلامي الحلقة الثالثة بقلم د/ جلال الدين محمد صالح

الحبشة والأحباش في التاريخ العربي الإسلامي الحلقة الثالثة بقلم د/ جلال الدين محمد صالح
الحلقة الثالثة


أما إذا كان المقصود بأن هذه الرقعة الجغرافية المعروفة الآن بجمهورية السودان هي التي حملت اسم الحبشة فيما مضى من الزمان

وعليها نشأت حضارة الحبشة، ومنها بسط الأحباش ملكهم وسلطانهم إلى من حولها، وفيها قابل الصحابة ملك الحبشة النجاشي، فذلك أمر فيه نظر، وغير مسلم، لما في ذلك من مجافاة الحقيقة التاريخية، التي أجمع عليها المؤرخون، من أن الحبشة اسم لتلك القبائل السامية، التي عبرت البحر الأحمر، من الجزيرة العربية، وبنت حضارة أكسوم التاريخية، وبالإجماع أن تجراي هي أرض أكسوم، وليس شمال السودان، أو شرقه، أو غربه، أو جنوبه.

يقول المؤرخ البريطاني أ. بول في كتابه: (تاريخ قبائل البجا بشرق السودان ص 32): عبر السبئيون الذين كانوا يشكلون القوة الغالبة في جنوب الجزيرة العربية البحر الأحمر بحثا عن التجارة، واحتلوا جزيرة دهلك الساحلية، ومن ثم توغلوا إلى الداخل ليستقروا في أرض تقرنيا، [ يعني تجراي] الواقعة الآن فيما يعرف بإرتريا وإثيوبيا، كان ذلك بزمن سحيق من مجيئ المسيح، قد يكون ذلك في عام 1000 قبل الميلاد، أو عام 600 قبل الميلاد.".

ودهلك حاليا هي إحدى الجزر الإرترية في البحر الأحمر، يقول فيها ياقوت الحموي في معجم البلدان/ج2/492: "دهلك... اسم أعجمي معرب... وهي جزيرة في بحر اليمن، وهو مرسى بين بلاد اليمن والحبشة، بلدة ضيقة حرجة، كان بنو أمية إذا سخطوا على أحد نفوه إليها.

وقال أبو المقدام:

ولو أصبحت خلف الثريا لزرتها بنفسي ولو كانت بدهلك دورها.

وقال أبو الفتح نصر الله، بن عبد الله الإسكندري:

وأقبح بدهلك من بلدة فكل امرئ حلها هالك

كفاك دليلا على أنها جحيم وخازنها مالك.

وبقليل من التأمل في قول الحموي عن دهلك إنها: (مرسى بين بلاد اليمن والحبشة) ندرك أن الحبشة هي هذه الديار المجاورة لجزيرة دهلك الإرترية، والمعروفة اليوم بـ(إثيوبيا)، كما أن اليمن هو هذا اليمن المجاور لها أيضا، وهذا ما نشاهده بأم أعيينا، وتواطأ عليه جغرافيو العرب قاطبة، قديما وحديثا، من غير شذوذ ولا نكير.

وكتب ابن الجوزي كتابا سماه ( تنوير الغبش في فضل السودان والحبش) والعطف غالبا ما يقتضي المغايرة، بمعنى ان المعطوف يغاير المعطوف عليه، ولو أن السودان هم الحبش، والحبش هم السودان، لما كان لهذا العطف معنى ومدلول.

كما أن الحيمي الذي زار الحبشة في القرن السابع عشر الميلادي مبعوثا من إمام اليمن المتوكل على الله إسماعيل بن القاسم (1645 ـ 1675 م ) إلى (فاسيلداس)، ملك الحبشة، عبر البحر الأحمر من مينآء مخة اليمني إلى ميناء بيلول الإرتري حاليا، قاصدا العاصمة (قندر) حيث يوجد الملك المذكور، دون رحلته هذه في مذكرة سماها (سيرة الحبشة)، ولم يسمها مثلا سيرة السودان.

ويقول بول أيضا نقلا عن بعض المؤرخين: " طرد الأحباش من سواحلهم العابقة بالبخور بالجزيرة العربية، وحرموا من أنشطتهم التجارية في قواردفوي، وبدأوا يبحثون لنفسهم موطنا جديدا في مرتفعات التقري [ يعني التجراي] حيث أسسوا سلطتهم في المدينة التي سميت فيما بعد بأكسوم." انظر ص 34

ويحدد الفترة التاريخية التي نشأت فيها مملكة أكسوم بقوله: ولكن الذي لا شك فيه أن مملكت أكسوم قامت حوالي عام 60 قبل الميلاد..." ص35.

ويسمي النجاشي الذي استقبل الصحابة المهاجرين إليه، فيقول هو: " (أرمها) الذي أعطى الحماية لأصحاب محمد، الذين هاجروا من مكة، واجتمعوا به في الفترة ما بين 610 ـ 629 م".

ويقول عنه في موضع آخر : " عدد ملوك أكسوم المعروفين لدينا قليل، منهم "أرمها" الذي استقبل وأعطى الحماية لأوائل المسلمين المهاجرين إليه..." /36

ويصفه بأنه " آخر ملوك أكسوم، الذين ذكرهم التاريخ... بعد ذلك ضعف نفوذ أكسوم وتلاشى مجدها، بسبب الهجمات العربية عام 640 م، والتي تسببت في القضاء على مينائها في أدوليس..."/41

أما المصادر العربية فتسميه أصحمة، حيث أورد ابن كثير في البداية والنهاية ج3 ص83 ذلك الخطاب الذي أرسله إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع عمرو بن الضمري، فقال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن الضمري إلى النجاشي في شأن جعفر بن أبي طالب وأصحابه، وكتب معه كتابا: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي الأصحم ملك الحبشة، سلام عليك فإني أحمد إليك الملك القدوس، المؤمن، المهيمن، وأشهد أن عيسى روح الله وكلمته القاها إلى مريم البتول الطاهرة الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه من روحه ونفخته كما خلق آدم بيده ونفخته، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني فتؤمن بي وبالذي جاءني، فإني رسول الله، وقد بعثت إليك ابن عمي جعفرا، ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاؤوك فاقرهم ودع التجبر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى.

وقد أجابه النجاشي معلنا إسلامه بقوله: وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقرينا ابن عمك وأصحابه، فأشهد أنك رسول الله، صادقا مصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين... المصدر نفسه/ 84

وتبعه على الإسلام نفر من قومه الأحباش، والراجح أنهم كتموا إسلامهم، كما كتم هو إسلامه، من هؤلاء جاريته ( أبْـرِهِـتْ) همزة مفتوحة، فباء ساكنة، وراء مكسورة، يليها هاء مكسور، بعده تاء ساكنة، وتكتبها المصادر العربية بتاء مربوطة، وهذا خطأ، لأنها علم على أنثى وكتابتها بالتاء المربوطة يجعل منها علما على مذكر، وثمة فرق بين ( أبرهة) أو ( أبرها) و(أبرهت)، ومعنى كل منهما بالعربية (أضاء)، و(أضاءت) مأخوذ في الأصل من البرهان، يقول الحبشي إذا ما طالبك بتوضيح الكلام: (أبْـرَهَـلَّـيْ) أي وضح لي.

ويسمي مسلمو الحبشة النجاشي بـ(أحمد النجاشي) وليس لهم من سند تاريخي يستندون إليه في تسميته بأحمد، وإنما هي حكايات يتناقلونها، وله قبر يزار في تجراي، ويشدون إليه الرحال، ولكن ليس من دليل يثبت أنه قبره الحقيقي، وكثير من القبور المنسوبة إلى الأنبياء، والأولياء، والأصفياء، في بلاد الإسلام، تقوم على مجرد دعاوى.

وإن كلمة ( النجاشي) لفظة (حبشية)، وهي لقب لمن ملك الحبشة، كقيصر لمن ملك الروم، وكسرى لمن ملك الفرس، وخاقان لمن ملك الترك، وفرعون لمن ملك مصر / ابن كثير: البداية والنهاية ج3/78.

وما زال الأحباش يلقبون الملك إلى يومنا هذا بـ( نجوس)، وكان آخر نجاشيهم الإمبراطور هيلي سلاسي يحمل لقب (نجوس نجستي) أي ملك الملوك، كما يسمون كل حاكم يحكم (نجاسي)، وفي أمثالهم يقولون: (زبرقت طحاينا، وزنجسى نجوسنا) كل شمس تشرق فهي شمسنا، وكل ملك يحكم فهو ملكنا، في إشارة منهم إلى قابلية التأقلم مع كل نظام سياسي.

ويرفض الدكتور عبد العزيز عبد الغني استاذ التاريخ بجامعة أفريقيا العالمية الخرطوم، في كتابه (أهل بلال) فكرة أن السودان هو الحبشة، ويعتبر القول بهذا وليد خلط في المعلومات التاريخية، عند بعض المؤرخين فيقول: ولعل ذلك الخلط في أذهان العرب بين الحبشة والسودان هو الذي ساق بعض المفكرين في العصر الحديث لاعتبار لقمان من أنبياء السودان، وبلال من مواطنيه، وجنح البعض منهم إلى القول بأن النجاشي كان من ملوك السودان./5

من أي ميناء خرج الصحابة في هجرتهم إلى الحبشة؟ ومن أي ميناء دخلوا الحبشة؟ من سواكن أم مصوع؟ وما هي الأحداث السياسية التي استهدفت حكم النجاشي خلال وجودهم؟ وكيف تعاملوا معها؟ هذا ما سنتناوله في الحلقة القادمة فتابع معنا؟

3/3/2006

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق