الجمعة، 19 نوفمبر 2010

سر رحلة القهوة من الحبشة إلى البرازيل

سر رحلة القهوة من الحبشة إلى البرازيل

«شجرة القات» أزاحتها من الجبال اليمنية


3 قرون احتاج إليها البن لينتشر من الحبشة إلى أنحاء العالم («الشرق الأوسط»)

الرياض: فيصل آل مغثم
منذ مئات السنين، هيمنت القهوة على الكثير من عادات العالم وارتبطت بها، فكما ارتبطت بشكل رئيسي بعادات الضيافة والكرم لدى العرب، فهي أيضا مرتبطة بعادات وتقاليد اجتماعية لكثير من شعوب العالم، الأمر الذي عزز من حضور القهوة في شتى أصقاع المعمورة، على الرغم من التباين في طقوس احتسائها، وكيفية تحضيرها.
وحين تستمع إلى بعض العرب، وهم ينادون القهوة باسم «الشاذلية»، فلا تنكر هذه التسمية، فهذا الاسم لم يأت من فراغ، حيث يضرب بعيدا في جذور التاريخ، فتنسب هذه التسمية إلى أحد المتصوفين، من جماعة الطريقة الشاذلية، ويعرف باسم «عمر الشاذلي»، وتروي القصص أنه أول من نقل القهوة من الحبشة إلى اليمن، وكانت زراعة بن القهوة محصورة في جنوب غربي الحبشة، حيث أوصلها الشاذلي إلى اليمن وسميت باسمه.

وتشير المخطوطات القديمة إلى أن المتصوفين، ومنهم الشاذلي المتوفى في «موخا» باليمن، هم أول من نقل القهوة من الحبشة إلى اليمن في القرن الخامس عشر الميلادي، وذلك عبر ميناء «زيلع» اليمني، الذي كان نقطة وصل رئيسية للتجارة ما بين اليمن والحبشة.

الدكتور ميشيل توشيرير، مدير المركز الفرنسي للآثار والعلوم الاجتماعية في صنعاء، يسرد قصة أخرى حول نقل القهوة إلى اليمن، حيث يشير إلى شخص كان يدعى «ببهاني»، ورد ذكره في مخطوط «عمدة الصفوة في حل القهوة» لعبد القادري الجزيري الذي كان يتولى شؤون الحج في مصر في القرن السادس عشر، حيث يشير مخطوط الجزيري إلى أن «ببهاني» ولد في عدن، قبل أن ينتقل إلى الحبشة، ويعود إلى اليمن مرة أخرى محملا بالبن الحبشي، ولم يكن «ببهاني» الوحيد الذي ذكره الجزيري، لكن على كل حال فالجزيري يؤكد أن القهوة انتقلت عبر المتصوفين خلال النصف الأول من القرن الخامس عشر.

ويعتبر الدكتور توشيرير أن الدلائل المتوافرة لا تنفي احتمالية وصول القهوة إلى اليمن قبل القرن الخامس عشر، إلا أنه لا يوجد ما يثبت ذلك، حيث إن رسالة الجزيري كانت أقدم دليل في تاريخ انتقال القهوة من الحبشة إلى اليمن حتى الآن.

ولا توجد دلائل على طريقة استهلاك القهوة في فترة ما قبل وصول الإسلام إلى الحبشة، فمن المحتمل أن تكون حبوب البن كانت تستهلك عبر أكل الثمرة مباشرة، أو أكلها بعد تحميصها، إلى أن تغير الوضع بعد دخول الإسلام إلى الحبشة، وأصبحت القهوة تستخدم حسب الطريقة الصوفية، عبر تحميصها وطحنها ثم غليها، حيث كان الصوفية يحتسون القهوة لتمنحهم القدرة على السهر للتعبد.

وجاء أقدم ذكر للبن في وثيقتين اكتشفتا مؤخرا في «طور» بسيناء المصرية، وترجع إحداهما إلى عام 1497، وتعتبر أول وثيقة تثبت استهلاك القهوة في منطقة البحر الأحمر، الأمر الذي يتفق مع رسالة الجزيري، ويؤكد صحة كلامه.

الطرق الصوفية كالشاذلية والأحمدية وغيرها، لعبت دورا كبيرا في نشر القهوة في اليمن، وبحسب الرسومات في بعض المخطوطات القديمة، كانت القهوة تحضر في اليمن والحبشة في آنية فخارية شبيهة بالدلة، تعرف باسم «الجمنة».

وانتشرت القهوة بعد ذلك خارج اليمن، عبر موانئ الحديدة واللحية وموخا وعدن، ووصلت إلى مكة المكرمة عام 1490، ومن هناك بدأت في الانتشار بالطرق البحرية والبرية عبر الحجاج وطرق التجارة، فوصلت إلى مصر عام 1500، في فترة حكم السلطان المملوكي الغوري.

ونشر الطلاب القادمون من الحجاز واليمن عادة شرب القهوة في الأزهر عبر أوساط الطلاب، حيث قاموا بجلبها من بلدانهم، لتنتشر بعد ذلك في مصر.

وعند دخول السلطان سليم الأول مصر عام 1517، نقل القهوة إلى إسطنبول وأزمير، عبر ميناء الإسكندرية، واستدل توشيرير على ذلك بمخطوطة ضمت رسوما لرجل يعتقد أنه السلطان سليم، ويعود عمرها إلى عام 1520.

وانتشرت القهوة في تركيا في أوساط الخاصة، قبل أن تنتشر في أوساط العامة، ثم ظهرت مقاهي القهوة، وذلك في منتصف القرن السادس عشر، التي أثارت جدلا آنذاك، نظرا إلى كون بيوت القهوة يلتقي فيها خاصة الناس وعامتهم، وبحسب الدكتور توشيرير فإن السياسة العثمانية كانت تقوم في تلك الفترة على التفريق بين العامة والخاصة.

ونظرا إلى أن هذه البيوت تجمع بين كاتب السلطان، وصانع السوق، فهذا يتسبب في حدوث مشكلات سياسية، واستند بعض الفقهاء آنذاك على هذا المبدأ «لتحريم بيع وشرب القهوة».

ولم يكن التحريم مقتصرا على تركيا فحسب، بل طال عددا من البلدان الإسلامية آنذاك، وتنوعت أسباب التحريم، فإلى جانب تغيير الأسس الاجتماعية، ظهر سبب يقول إن «تحميص البن يتسبب في تحويله من مادة حية إلى مادة ميتة، لذا يحرم شربه، لأنه يأخذ حكم الميتة»، كما استدل بعض رجال الدين بتسمية القهوة على تحريمها، حيث كان اسم القهوة يطلق على «الخمر» في تلك الأزمنة.

تجار القهوة كانوا «يستتابون» في المحاكم العثمانية سابقا، وروت بعض المخطوطات القديمة أن أحد أصحاب الوكالات التجارية في مصر تم تجريمه بسبب بيعه للقهوة، وتعهد للسلطات العثمانية في مصر بعدم بيع القهوة مجددا، والطريف في الأمر أنه بمرور الوقت، أصبحت مقاهي القهوة وقفا للمساجد، وفقا لما أشارت إليه بعض المخطوطات القديمة.

وحتى منتصف القرن السادس عشر، كانت زراعة البن محصورة في «الحبشة»، وكل ما يصل إلى اليمن كان من إنتاج الحبشة، قبل أن تنتقل شجرة البن إلى اليمن، ليبدأ اليمن في مرحلة إنتاج البن، حتى وقتنا الراهن.

وتشير بعض الدراسات اليمنية إلى أن شجرة البن دخلت اليمن مع شجرة القات في آن واحد أواخر العقد الرابع من القرن السادس عشر، إلا أن توشيرير ينفي هذا الأمر، على اعتبار أن شجرة القات سبقت البن بفترة طويلة، طبقا لرؤيته.

ويميل الدكتور توشيرير إلى المصادر العثمانية التي تذكر أن الحاكم العثماني أزدمير باشا هو من نقل شجرة البن إلى اليمن، حيث ضم أزدمير باشا الحبشة ضمن الحكم العثماني في منتصف القرن السادس عشر، قبل أن يكون حاكما لليمن، وينقل الشجرة إلى اليمن في النصف الثاني من القرن السادس عشر.

بيئة اليمن الجبلية تصالحت مع شجرة البن، فأسهمت في رفع إنتاج بن القهوة، وأصبح اليمن المركز الرئيسي لإنتاج البن في العالم، حيث كانت تقدر كمية إنتاجه في القرن السابع عشر من عشرين إلى ثلاثين ألف طن سنويا، الأمر الذي عزز دور اليمن الاقتصادي في تلك الحقبة الزمنية، كما كانت تجارة البن ركيزة أساسية من ركائز الاقتصاد العثماني.

وتوسعت شبكات تجارة البن أواخر القرن السادس عشر من اليمن عبر الحجاز وصولا إلى الإسكندرية وإسطنبول والأناضول والبلقان والمغرب العربي، في الوقت الذي كان فيه الحكم العثماني يهيمن على رقعة واسعة من المناطق في حوض البحر الأبيض المتوسط، والبحر الأحمر.

وكما انتشر البن من اليمن بحرا عبر موانئ الحديدة واللحية وموخا، إلى جدة والإسكندرية وإسطنبول، انتشر كذلك برا، وذلك عن طريق الحجاج الذين نقلوه من مكة المكرمة إلى دمشق فحلب، وأيضا عن طريق ميناء القطيف إلى الأحساء ونجد، وعن طريق البصرة إلى شمال العراق.

ويشير الدكتور توشيرير إلى أن تجار اليمن نقلوا البن بحرا عبر ميناء عدن وميناء موخا، إلى بلاد فارس والهند وإلى إندونيسيا وجاوا، كما أسهم الحجاج في عملية النقل، وذلك في أواخر القرن السادس عشر وبدايات القرن السابع عشر، بخلاف الدراسات التي أشارت إلى أن الهولنديين أسهموا في نقله من اليمن إلى مستعمراتهم القديمة في جنوب وشرق آسيا في القرن الثامن عشر.

وبعد انتشار القهوة في تركيا، دخلت القهوة من تركيا إلى أنحاء أوروبا، وأصبحت تباع في شوارع باريس، وثبت أن القهوة كانت موجودة في فينيسيا عام 1620، ثم شوهدت في مرسيليا عام 1640، لتظهر سوق جديدة للبن في أوروبا الغربية في النصف الثاني من القرن السابع عشر.

وحتى تلك الفترة، كان الأوروبيون مضطرين إلى شراء البن عبر الموانئ العثمانية في البحر الأبيض المتوسط، قبل أن يقوم الهولنديون بشراء القهوة مباشرة من ميناءي موخا وعدن، تبعهم الإنجليز فالفرنسيون، وذلك في أواخر القرن السابع عشر، ليقوموا بعد ذلك بنقل زراعة القهوة إلى مستعمراتهم في إندونيسيا والهند وجاوا والجزر الفرنسية في المحيط الهندي.

بعد ذلك، كفل الفرنسيون في بداية القرن الثامن عشر نقل شجرة البن إلى أميركا، عبر جزر المارتينيك، وانتشرت حينئذ في أنحاء القارة الأميركية، لتصل بعد ذلك إلى البرازيل، الأمر الذي أفقد اليمن دوره الرئيسي في إنتاج البن، فبعد أن كان اليمن ينتج ما يصل إلى 30 ألف طن سنويا قبل أربعة قرون، انحدرت هذه الكمية في الوقت الراهن إلى ما لا يتجاوز 7 آلاف طن سنويا، بعد منافسة شديدة مع شجرة القات، تغلبت فيها الأخيرة لتحل في جزء كبير من جبال اليمن.